قسم مفسر ظاهر لا يحتاج إلى تعبير ولا تفسير، وقسم مكني مضمر تودع فيه الحكمة والإبناء في جواهر مرئياته
وما كان له طبع في الصيف وطبع في الشتاء، عبر عنه في كل حين يرى فيه بطبع وقته وجوهره وعادته في ذلك الوقت، كالشجر والتمر والبحر والنار والملابس والمساكن والحيات والعقارب
وما كان له طبع بالليل وطبع بالنهار، عبر عنه في رؤيا الليل بطبعه وفي رؤيا النهار بعادته، كالشمس والقمر والكواكب والسراج والنور والظلمة والقنافذ والخفاش، وأمثال ذلك
ومن كانت له في الناس عادة: لازمته من المرئيات في سائر الأزمان أو في وقت منها، دون ترك فيها عادته التي عوده ربه تعالى
كالذي اعتاد أكل اللحم في المنام: أكله.
وإذا رأى الدراهم: دخلت عليه واستفاد مثلها في اليقظة
وإذا رأى الأمطار: رآها في اليقظة
أو يكون عادته في ذلك وفي غيره على خلاف ما في الأصول
وكل ماله في الرؤيا وجهان وجه يدل على الخير ووجه يدل على الشر: أعطى لرائيه من الصالحين أحسن وجهيه، وأعطى لرائيه من الطالحين أقبحهما
وإن كان ذلك المرئي ذا وجوه كثيرة متلونة متضادة متنافية مختلفة: لم يصر إلى وجه منها دون سائرها إلا بزيادة شاهد، وقيام دليل من ضمير الرائي في المنام، أو من دليل المكان الذي رأى نفسه فيه
وأن الرؤيا تأتي على ما مضى وخلا وفرط وانقضى: فتذكر عنه بغفلة عن الشكر قد سلفت، أو بمعصية فيه قد فرطت، أو بتباعة منه قد بقيت، أو بتوبة منه قد تأخرت
وقد تأتي عما الإنسان فيه
وقد تأتي عن المستقبل: فتخبر عما سيأتي من خير أو شر، كالموت والمطر والغنى والفقر والعز والذل والشدة والرخاء
وأن أقدار الناس قد تختلف في بعض التأويل حسب اختلافها في نقصانها في الجدود والحظوظ، وإن تساووا في الرؤيا
فلا يجيد تعبير ذلك المرئي الذي يتفقون في رؤيته في المنام، إلا واسع المعاني متصرف الوجوه
كالرمانة: ربما كانت للسلطان كورة يملكها، أو مدينة يلي عليها، يكون قشرها جدارها أو سورها وحبها أهلها؛ وتكون للتاجر داره التي فيها أهله، أو حمامه، أو فندقه، أو سفينته الموقرة بالناس والأموال في وسط الماء، أو دكانه العامر بالناس، أو كتابه المملوء بالغلمان، أو كيسه الذي فيه دراهمه ودنانيره؛ وقد تكون للعالم أو للعابد الناسك كتابه ومصحفه، وقشرها أوراقه، وحبها كتابه الذي به صلاحه؛ وقد تكون للأعزب زوجة بمالها وجمالها، أو جارية بخاتمها يلتذ بها حين افضاضها [افتضاضها؟؟]؛ وقد تكون للحامل ابنة محجوبة في مشيمتها ورحمها ودمها؛ وربما كان في مقادير الأموال بيت مال السلطان وبدرة للعمال، وألف دينار لأهل اليسار، ومائة دينار للتجار، وعشرة للمتوسط، ودرهما للفقير، وخروبة للمسكين، أو رغيف خبز أو مدا من الطعام أو رمانة كما رآها لأنها عقدة من العقد تحل في الاعتبار والنظر والقياس في الأمثال المضروبة للناس على الأقدار والأجناس
وما كان من الشجرة ذات السيقان والشعب والمعرفة بالفريقين، فأكرمها عرب
وما كان منها لا ساق لها كاليقطين ونحوه، فهو من العجم، أو من لا حسب له، كالمطروح والحميل واللقيط
وبذلك يوصل إلى فوائد الزوائد وعوائدها
وربما رأى الإنسان الشيء فعاد تأويله إلى شقيقه أو ربيبه أو سميه أو نسيبه أو صديقه أو جاره أو شبهه في فن من الفنون، وإنما يشرك بين الناس في الرؤيا بوجهين من هذه الأسباب: كمن يتفق معه في النسب الواحد كشقيقه لاشتراكه معه في الأبوة والنسب والبطن، وكسميه وجاره ونظيره. فلا تصح الشركة إلا بوجهين فصاعدا
وليس تنقل الرؤيا أبدا برأسها عمن رئيت له ألا [؟؟] تليق به معانيها ولا يمكن أن ينال مثله موجبها ولا أن ينزل به دليلها أو يكون شريكه فيها أحق بها منه بدليل يرى عليه وشاهد في اليقظة والنظر يزيد عليه، كدلالة الموت لا تنقل عن صاحبها إلا أن يكون سليم الجسم في اليقظة وشريكه مريضا فيكون لمرضه أولى بها منه لدنوه من الموت واشتراكه معه في التأويل
فلذلك يحتاج العابر إلى أن يكون كما وصف أدبيا ذكيا فطنا نقيا عارفا بحالات الناس وشمائلهم وأقدارهم وهيئاتهم، يراعي ما تتبدل مرائيه وتتغير فيه عادته، عند الشتاء إذا ارتحل ومع الصيف إذا دخل، عارفا بالأزمنة وأمطارها ونفعها ومضارها، وبأوقات ركوب البحار وأوقات ارتجاجها، وعادة البلدان وأهلها وخواصها وما يناسب كل بلدة وما يجيء من ناحيتها، كقول الفتى في الجاورس ربما دل على قدوم غائب من اليمن لأن شطر اسمه جار الورس لا يكون إلا من اليمن، عرافا بتفصيل المنامات الخاصية من العامية فيما يراه الإنسان
والمرئيات التي تجتمع العالم والخلق في نفعها كالسماء والشمس والقمر والكواكب والمطر والريح والجوامع والرحاب، فما رآه في منامه من هذه الأشياء خاليا فيه مستبدا به أو رآه في بيته فهو له في خاصيته
وقد قالت القدماء من غلبت عليه السوداء رأى الأحداث والسواد والأهوال والأفزاع، وإن غلبت عليه الصفراء رأى النار والمصابيح والدم أو المعصفر، وإن غلب عليه الدم رأى الشراب والرياحين والعزف والصفق والمزامير
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا ثلاثة فرؤيا بشرى من الله تعالى ورؤيا من الشيطان، ورؤيا يحدث بها الإنسان نفسه فيراها"
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذهبت النبوات وبقيت المبشرات"، وقد قال بعض المفسرين في قوله عز وجل {لهم البشرى في الحياة الدنيا} قال هي الرؤيا الصالحة
وقيل إن العبد إذا نام وهو ساجد يقول ربنا عز وجل انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي
وروي عن أبي الدرداء قال: إذا نام الرجل عرج بروحه إلى السماء حتى يؤتى بها العرش فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها في السجود
وقد اختلف الناس في النفس والروح فقال بعضهم هما شيء واحد مسمى باسمين كما يقال إنسان ورجل وهما الدم أو متصلا بالدم يبطلان بذهابه. والدليل على ذلك أن الميت لا يفقد من جسمه إلا دمه، واحتجوا لذلك أيضا من اللغة بقول العرب نفست المرأة، إذا حاضت ونفست من النفس، وبقولهم للمرأة عند ولادتها نفساء لسيلان النفس وهو الدم، وربما لم يزل جاريا على ألسنة الناس من قولهم سالت نفسه إذا مات. قال أوس بن حجر نبئت أن بنى سحيم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر والتامور الدم أراد قتلوه فأضاف الدم إلى النفس لاتصالها به.
وقال آخرون هما شيئان فالروح باردة والنفس حارة، ولهذا النفخ يكون من الروح ولذلك تراه باردا بخلاف النفس من النفس فإنه سخين. وسمَّت العرب النفخ روحا لأنه من الروح، يكون على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان متصلا به وسببا، فيقول للنبات ندى لأنه بالندى يكون، ويقولون للمطر سماء لأنه من السماء ينزل، قال ذو الرمة لقادح نار:
فقلت له ارفعها إليك وأحيها * بروحك واجعلها لها قنية قدرا
يريد أحيها بنفخك. وانشد بعض البغداديين:
وغلام أرسلته أمه * بأشاحين وعقد من ملح
تبتغي الروح فأسعفنا بها * وشفاء ماء عين في قدح
وهذه امرأة استرقت لولدها فابتغت الروح أي في نفخ الراقي إذا نفث في ماء من ماء العيون، وأخذوا النفس من النفس وقالوا للنفس نسمة، يقال على فلان عتق نسمة أي عتق نفس
والله عز وجل يقول:{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الروح روح الحياة في هذه المواضع، وذهب بعض المفسرين إلى أنه ملك من الملائكة يقوم صفا وتقوم الملائكة صفا، فإن كان الأمر على ما ذكر الأولون فكيف يتعاطى علم شيء استأثر الله عز وجل به ولم يطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتحن بالسؤال عنه ليكون له شاهدا ولنبوته علما؟
(يتبع...)